نايلة علي محمد الخليفة تحول النظرة السودانية إلى الأجانب بعد الحرب من الرأفة إلى الحذر
زاوية خاصة

لطالما عُرف الشعب السوداني بكرمه الفطري ، وطيب معشره ، وسعة صدره التي تتجاوز حدود العِرق والدين واللغة ، لم يكن غريبًا أن يحتضن السودان ، عبر تاريخه الطويل ، موجات من اللاجئين والنازحين من دول الجوار ، فقد كانت أرضه ملاذًا آمناً لكل من ضاقت به السبل ، ومأوى للضعفاء والمستجيرين ، دون أن يسألهم أحد عن موطنهم الأصلي أو خلفيتهم السياسية ، كان المبدأ الإنساني هو البوصلة التي توجه السوداني ، سواء كان حاكماً أم مواطناً بسيطاً ، إذ كان الإيثار والرحمة من صميم تكوينه النفسي والاجتماعي.
Thank you for reading this post, don't forget to subscribe!غير أن هذا الباب المفتوح على مصراعيه ، والذي كان رمزًا للطيبة والأصالة ، تحوّل في السنوات الأخيرة إلى ثغرةٍ استغلها البعض بأسوأ صورة ، فمع اندلاع الحرب ، برزت ظاهرة خطيرة تمثّلت في تورّط أعداد مهولة من الأجانب الذين عاشوا بيننا سنين ، في صفوف المليشيا المتمردة ، لا كمجرد متعاطفين ، بل كمقاتلين مأجورين ومرتزقة حملوا السلاح ضد الوطن الذي آواهم ، كانت تلك الطعنة الغادرة صادمة لوجدان الشعب السوداني ، إذ جاءت ممن شاركوه الخبز والماء والمأوى ، ممن أُحسن إليهم في أشدّ لحظات ضعفهم ، فإذا بهم يردّون الجميل بالدم والنار.
لقد كان لهذه الخيانة أثر بالغ في تغيير نظرة السودانيين إلى الوجود الأجنبي على أرضهم ، فبعد أن كان يُنظر إلى الأجنبي بعين الرأفة والمساندة والشفقة ، أصبح يُنظر إليه اليوم بعين الحذر والتوجّس ، تبدلت الثقة الطبيعية التي كانت تميز العلاقة ، وصارت الأسئلة تُطرح حول النوايا والولاءات ، خصوصاً بعد أن تبيّن أن بعض أولئك الأجانب نالوا الجنسية السودانية واستفادوا من مزايا المواطنة ليكونوا جزءًا من المنظومة التي تقاتل ضد البلاد نفسها.
ومن هنا برزت ضرورة تقنين الوجود الأجنبي في السودان بصورة أكثر صرامة بعد الحرب ، فالتجربة القاسية التي مرّت بها البلاد كشفت الحاجة المُلحة إلى مراجعة ملفات الأجانب المقيمين على أراضيها ، وضبط أوضاعهم وفقاً لقوانين الهجرة الدولية ، وقد شرعت الدولة بالفعل في تطبيق إجراءات واقعية تمثلت في ترحيل الأجانب إلى بلدانهم الأصلية ، في خطوة تعبّر عن ممارسة السودان لحقه المشروع والطبيعي في حماية أمنه القومي وسيادته الوطنية ، فالقانون الدولي يكفل لكل دولة الحق في تنظيم وجود الأجانب على أراضيها ، وليس من حق أي جهة أو دولة أن تعترض على هذه الخطوات التي اتخذها السودان حفاظًا على استقراره الداخلي وأمن مواطنيه ، إن ما تقوم به الدولة اليوم لا يُعدّ تضييقاً على أحد ، بل تصحيحاً لمعادلة اختلّت حين تحولت الطيبة إلى ثغرة استُغلّت ضد الوطن.
إن ما حدث لم يكن مجرد حادثة عابرة ، بل محطة فاصلة في الوعي الجمعي السوداني ، لقد أدرك السوداني ، بعد هذه التجربة القاسية ، أن الطيبة وحدها لا تكفي ، وأن حسن النية لا يجب أن يكون بديلاً عن الحذر المشروع في إدارة شؤون الدولة والمجتمع ، لم يعد مبدأ “من استجار بنا أمن” قاعدة مطلقة كما كان في السابق ، بل أصبح مشروطًا بمعايير الأمن والسيادة الوطنية.
ورغم كل ذلك لم تفقد الشخصية السودانية جوهرها الإنساني ، فهي لا تعرف الكراهية العمياء ، ولا تنساق وراء الانتقام ، لكنها تعلمت درساً قاسياً في كيف تكون الرحمة بعينٍ يقظة ، والعطاء بعقلٍ حصيف ، فالسودان الذي فتح ذراعيه يومًا لكل قادم ، بات اليوم يعيد النظر في كيفية حماية بيته الكبير من أولئك الذين يدخلونه بأقنعةٍ تخفي نواياهم الحقيقية.
لقد أفرزت الحرب وعياً وطنياً جديداً في السودان ، ووضعت معايير مختلفة للعلاقة مع الآخر ، أساسها الاحترام المتبادل لا الاستغلال ، والمصالح المشتركة لا الابتزاز ، فالدولة التي كانت تُعرف برحابة صدرها ، أصبحت اليوم أكثر إدراكاً لضرورة صون حدودها وقرارها ، إن السيادة الوطنية ليست شعاراً يرفع ، بل مسؤولية تُمارس بحكمةٍ وصرامة ، والوعي الجمعي السوداني اليوم يسير في هذا الاتجاه بثبات ، فبين الرحمة والحذر يولد التوازن ، وبين الطيبة والوعي تُبنى دولة لا يُخدع كرمها ولا تُغتال إنسانيتها مرة أخرى…لناعودة




