حسن فضل المولى يكتب : الإصلاح باللطائف لا القذائف ..

استمعت إلى أحدِهم ، و هو يعِظُهنَّ ، و يُغلِظ في الخطاب .. لقد اتخذ لمخاطبتهن إحدى
Thank you for reading this post, don't forget to subscribe!( منصات التواصل الاجتماعي ) .. لم تعجبني تلك الطريقة التي كان يتحدث بها إليهن .. و هي طريقة مُنفِّرة أكثر من أنها مُبَشِّرة .. و مُستفِّزة أكثر من أنها مُستَحسنه .. و ما كان لي أن أتعَقَّبه لو لا أنه قد عمَّد نفسه ( داعيةً ) .. و ( الداعية ) قبل أن يدعو الآخرين عليه أن يتردد ألف مرة ، مخافة أن يأتي مقتاً كبيراً بقول ما لا يعمل ، أو بقولٍ نُكُرٍ غير مستساغ ..
و مرةً استمعت إلى الشيخ ( محمد راتب النابلسي ) و هو يقول : ( التقيت بالشيخ محمد متولي الشعراوي مرتين ، و في إحداهما قلت له أريد نصيحة ( للدعاة ) ،
فتوقعت أن يتكلم ساعة أو ساعتين ، فإذا بها جملة و احده قال :
” فليحذر الداعية أن يراه المدعو على خلاف ما يدعوه إليه ” .. و هنا المصداقية .. فأنا أنتفع بعلم ( الطبيب ) و لا أهتم بسلوكه الخاص ، و أنتفع بعلم ( المهندس ) ، و بعلم
كل عالم من علوم الدنيا ، إلا أن ( عالم الدين ) لا يمكن أن يُنتفع منه إلا إذا بدت حياتُه الخاصة مصداقاً لدعوته ، فإذا وجد المدعو مسافة بين الأقوال و الأفعال ضعفت الدعوة و لم يستطع الداعية عندئذٍ أن يجتذب إليه أحداً ) ..
و الأمر عندي ينسحب على كل من ينبري للتصويب و الإصلاح ..
و أنت تُبَلِّغ ،
قل كلمتَك برفق و محبة ،
و ليكن في عِلمِك ..
( إنك لا تهدي من أحببتَ و لكنَّ
اللهَ يهدي من يشاءُ و هو أعلمُ
بالمهتدين ) ..
و لعل ديننا الحنيف هو ..
دعوة بالتي هي أحسن ،
و دفع بالتي هي أحسن ،
و جدال بالتي هي أحسن ..
و سعيٌ بالتي هي أحسن ،
إلى الذي هو أجمل و أحسن ..
و الإنسان بطبعه جُبل على الانقياد
لمن يدعوه بأدب و لطف و لين ،
و الإعراض عمن يخاطبه بغلظة
و فظاظة ..
و هنا تتجلى عظمة التوجيه الإلهي
لسيدنا ( موسى ) و أخيه ( هارون ) ،
عليهما السلام ، و هما يخاطبان
فرعون ،
و قد طغى و بغى ،
و للألوهية إدعى ..
و بالرغم من كل هذا الطغيان ،
( فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ) ..
النصح ثقيل ، فلا ترسله حِجارةً ،
و لا تجعله جدلاً ، و خفف من
و طأته بليِّن القول و طلاقة الوجه ..
و قطعاً ستأخذ باللين ما يستعصي
عليك بالشدة ..
أحد الشعراء دعته امرأة جميلة
إلى ( الإلحاد ) !!!
لم يصرف لها ( بركاوي ) ، و لكنه
أفاض عليها مما يروق لها ، قال :
( إن لم يكن هناك إله لهذا الكون
فأيّ صُدفة تستطيع خلق هذا
الجمال !!! ) ..
و أنشد :
( و مليحةٍ ترمي السهام سديدةً
بالطرف أما الفكر غير سديد
تدعو إلى الإلحاد في كلماتها
و جمالها يدعو إلى التوحيد ) ..
و في حالَتَي الأمر و النهي ،
إن من أرفع درجات الأدب مراعاة
مشاعر الآخرين و أنت تصوبهم
إذا بدا لك أنهم قد أساؤوا ..
و هو توجيه رباني ،
و سلوك نبوي ،
و خُلْق رشيد ..
إن من أكثر الأشياء إيلاماً للإنسان
أن تُشَهِّر به على الملأ ،
و أن تُحصي معايبه بياناً ،
دون تورية أو تغليف أو تلطيف ،
من قَبِيل أنت ( كذا ) و ( كذا ) ،
و لا تفعل ( كذا ) و ( كذا ) ..
و في سيرة الرسول ﷺ دروس وعبر ،
و هو يراعي مشاعر المستهدَفين
إن أخطؤوا ،
لقد كان يعرِّض و لا يصرِّح ، إذا
بدر ما لا يليق من أحدٍ ، ثم يبين
أوجه الصواب ..
كان إذا بلغه أو رأى أمراً غير
محمود من أحد الناس لا يقول :
( ما بال فلان يقول كذا أو فلانة
تفعل كذا ) ،
و لكن ، كان يقول : ( ما بالُ أقوامٍ
يقولون كذا و كذا ) ،
فيرفع بذلك التعميم الحرج عن المخطىء ..
مراعاة مشاعر الآخرين ،
هي بيت القصيد ،
و الذي لا يُراعي مشاعر الآخرين ،
لا خير فيه ،
و لا خير يُرجى منه ..
و مراعاة مشاعر الآخرين ، هي
من توقير الخلائق ..
قال الشيخ ( بن عربي ) :
( لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توَّقِر
جميع الخلائق ) ..
و توقير الخلائق يكون بلطيف
التصويب و التسديد ،
وفي كل الأحوال يلزمنا ان نهتدي
بما كان يصدر عن النبي ﷺ
و دونكم ما رواه ( أبوهريرة ) ، رضي
الله عنه ، من أن أعرابياً ( بال ) في
المسجد ، فثار عليه الناس ليقعوا
به و يؤذونه ، فقال لهم ﷺ :
( دعوه و أهْرِيقوا على بوله ذَنوباً
من ماء ، فإنما بعثتم ميسِرِين
و لم تبعثوا معسرين ) ،
و أضاف البعض أن هذا الإعرابي
لِما رآه من معاملته له ﷺ ، جلس
بعيداً ، و سأل ربه :
( اللهم ارحمني و محمداً و لا ترحم
معنا أحداً ) ، فقال له النبي ﷺ:
( لقد تحجَّرت واسعاً ) ، و تحجَّرت تعني ضيَّقتَ ..
و من اللطائف أن ( الأوقص المخزومي ) ، قاضي ( مكة ) ، في
خلافة ( المهدي العباسي ) ،
مر به في ليلةٍ رجلٌ سكران يُغَنى ،
فأوصل إليه رسالته بلطف :
( يا هذا شربت حراماً ، و أيقظت
نوَّاماً ، و غنيت خطأً ) و صحح له
غِناءه ،
و كان ( الأوقص ) في بداية حياته
يغني ، و كان قصيراً دميماً ،
فقالت له أمه :
( يا بني إنك خُلِقت خِلقة لا تصلح
معها لمجامعة الفتيات في بيوت
القيان ، إنك لا تكون مع أحد إلا
تخطتك إليه العيون ،
فعليك بالدين ، فإنه يرفع الخسيسة و يتم النقيصة ) ، قال : ( فنفعني الله بكلامها فصرت قاضياً ) .. و انظروا إلى هذه الأم ،كيف توسلت إلى صرف إبنها عن الغناء بأرق عبارة و أبلغ وصف ، و تأملوا في هذه المبالغة التي تشع جمالاً ، ( إنك لا تكون مع أحد إلا تَخَطَّتك إليه العيون ) ، يعني مافي زول حيشتغل بيك ..و قولوا للناس حُسنا و يوماً ، انتَهَر أحَدُهم رجلاً بغِلظة قائلاً ، ( هذا ليس من الدين ) ، فرد عليه الرجل : ( و هل هذا اللؤم من الدين !! ) .. نعم ، ديننا نَهجُهُ ، ( بَشِّروا و لا تُنَّفِروا ) .. و أنت إذا تفعل ذلك ، كن عوناً لمن تنصح على المعصية ، و لاتكن عوناً للمعصية عليه ، بمعنى ، ( دائما أكره الخطأ لكن لا تكره المخطيء ، أبغض بكل قلبك المعصيّة لكن سامح وأرحم العاصي ، إنتقد القول لكن احترم القائل ، مهمتنا هي أن نقضي على المرض لا على المرضى .. و القول للإمام ( الشافعي ) ، رضي الله عنه .. و هذا الفهم ، يقود إلى ممارسة تجعل من هذا النُصح تسديداً ، لا زجراً و توبيخاً و تعنيفاً .. و هو عطاء النفوس الممتلئة يقيناً بأن المسلم مهما ولَغَ في المعاصي فإنه موعودٌ برحمة الله و مغفرته ، ( قُلْ يَعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَالْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) .. و ليس هناك رجاء أرجى من أن رحمة الله لن تخطىء حتى الذين ( أسرفوا ) ، أي ، تجاوزوا الحد ، و تمادوا ، و أكثروا ، و أفْرَطوا .. إن التواصي بالحق يعبِّر عن الروح التي ننظر بها إلى الآخرين .. و إن الموقف من الآخرين يقتضينا ، أن نتقبلهم ، و أن نحسن الظن بهم ، و أن نلتمس العذر لهم ، و هم في رحمة الله يتقلبون ، و قد وعدهم بأوفى الجزاء من قليل العمل مع الصدق .. و هاكم .. ( إن الحسنات يذهبن السيئات ) ، و ( إن الله قد جعل الحسنة بعشر أمثالها ) ، و يكافىء العبد على إماطة الأذى عن الطريق ، و جعل في ( بُضْع ) أحدنا صَدَقة ، قالوا : ( يارسول الله أيأتي أحدُنا شَهْوَتَه و يكون له فيها أجرٌ ؟ ) ، قال ﷺ : ( أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وِزرٌ ؟ ، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ ) .. و روى أبوهريرة عن الرسول ﷺ( بينما رجلٌ مُسْتَلْقٍ على فِراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم و إلى السماء فقال أشهد أن لك رباً و خالقاً اللهم اغفر لي ، فنظر الله إليه فغفر له ) ..إنها مُحفزات و مُرغِبات بالغات .. و هو تعالى إذ يبسط لنا هذه المُحفِّزات و المُرغِّبات لنُوقِن أن رحمتة في متناول الجميع بقليل من السعي مع الصدق ..و أيُّ سعيٍ إلى الله ، هو طريق إليه ، فلا يظنن أحد أن الطريق إلى الله و احد ، و هو الذي يسلكه ( هوَ ) ، لا ، و ألف لا .. إن الطرق إلى الله بعدد الخلائق ، إذ لكلٍ طريقه المُفضي به إلى ربه .. و أي إنسِيّ يرى أن طريقته هي الحق ، و كل ما عداها باطل فلا يُعوَّلُ عليه ، و هو ناقص دين .. و أي جماعة ترى أن طريقتها هي الحق ، و ماعداها باطل ، فلا يُعَوَّلُ عليها ، و هي فاقدة للأحقية بالإتباع .. إذن ، و أنت في سعيك إلى الله ، تواضع ، و لا تغتر بطاعتك لله ، فلعلك قد اقترفت من المعاصي ، ما يُزري ، من حيث لا تدري .. و لا تقطع بحرمان أحدٍ من رحمة الله ، فلعله الأرضى لربه منك ، بما قدم ، من حيث لا تدري .. و عندها ، ستقول الأحسن ، و بالتي هي أحسن ، و رغبةً في الذي هو أحسن ..
و الله من وراء القصد ..
١٨ أكتوبر ٢٠٢٤ ..